سورة المؤمنون - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


{قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)}.
يقرر تعالى وحدانيته، واستقلاله بالخلق والتصرف والملك، ليرشد إلى أنه الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له؛ ولهذا قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين العابدين معه غيره، المعترفين له بالربوبية، وأنه لا شريك له فيها، ومع هذا فقد أشركوا معه في الإلهية، فعبدوا غيره معه، مع اعترافهم أن الذين عبدوهم لا يخلقون شيئًا، ولا يملكون شيئًا، ولا يستبدّون بشيء، بل اعتقدوا أنهم يقربونهم إليه زلفى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فقال: {قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا} أي: من مالكها الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات، وسائر صنوف المخلوقات {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي: فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك له، فإذا كان ذلك {قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي: لا تذكرون أنه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرازق لا لغيره.
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} أي: من هو خالق العالم العُلْوي بما فيه من الكواكب النيّرات، والملائكة الخاضعين له في سائر الأقطار منها والجهات، ومن هو رب العرش العظيم، يعني: الذي هو سقف المخلوقات، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «شأن الله أعظم من ذلك، إن عرشه على سمواته هكذا» وأشار بيده مثل القبة.
وفي الحديث الآخر: «ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة».
ولهذا قال بعض السلف: إن مسافة ما بين قطري العرش من جانب إلى جانب مسيرة خمسين ألف سنة، وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: إنما سمي عرشًا لارتفاعه.
وقال الأعمش عن كعب الأحبار: إن السموات والأرض في العرش، كالقنديل المعلق بين السماء والأرض.
وقال مجاهد: ما السموات والأرض في العرش إلا كحلقة في أرض فَلاة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا العلاء بن سالم، حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان الثوري، عن عمار الدُّهني، عن مسلم البَطِين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: العرش لا يقدر أحد قدره.
وفي رواية: إلا الله عز وجل.
وقال بعض السلف: العرش من ياقوتة حمراء.
ولهذا قال هاهنا: {وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} يعني: الكبير: وقال في آخر السورة: {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}.
أي: الحسن البهي. فقد جمع العرش بين العظمة في الاتساع والعلو، والحسن الباهر؛ ولهذا قال من قال: إنه من ياقوتة حمراء.
وقال ابن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه.
وقوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} أي: إذا كنتم تعترفون بأنه رب السموات ورب العرش العظيم، أفلا تخافون عقابه وتحذرون عذابه، في عبادتكم معه غيره وإشراككم به؟
قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتاب التفكر والاعتبار: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الله بن جعفر، أخبرني عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يحدث عن امرأة كانت في الجاهلية على رأس جبل، معها ابن لها يرعى غنما، فقال لها ابنها: يا أماه، من خلقك؟ قالت: الله. قال: فمن خلق أبي؟ قالت: الله. قال: فمن خلقني؟ قالت: الله. قال: فمن خلق السماء؟ قالت: الله. قال: فمن خلق الأرض؟ قالت: الله. قال: فمن خلق الجبل؟ قالت: الله. قال: فمن خلق هذه الغنم؟ قالت: الله. قال: فإني أسمع لله شأنا ثم ألقى نفسه من الجبل فتقطع.
قال ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يحدثنا هذا الحديث.
قال عبد الله بن دينار: كان ابن عمر كثيرًا ما يحدثنا بهذا الحديث.
قلت: في إسناده عبد الله بن جعفر المديني، والد الإمام علي بن المديني، وقد تكلموا فيه، فالله أعلم.
{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي: بيده الملك، {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56]، أي: متصرف فيها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا والذي نفسي بيده»، وكان إذا اجتهد في اليمين قال: «لا ومقلب القلوب»، فهو سبحانه الخالق المالك المتصرف، {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} كانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحدًا، لا يُخْفَر في جواره، وليس لمن دونه أن يجير عليه، لئلا يفتات عليه، ولهذا قال الله: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} أي: وهو السيد العظيم الذي لا أعظم منه، الذي له الخلق والأمر، ولا معقب لحكمه، الذي لا يمانع ولا يخالف، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وقال الله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، أي: لا يسئل عما يفعل؛ لعظمته وكبريائه، وقهره وغلبته، وعزته وحكمته، والخلق كلهم يُسألون عن أعمالهم، كما قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93].
وقوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي: سيعترفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا يجار عليه، هو الله تعالى، وحده لا شريك له {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي: فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم وعلمكم بذلك.
ثم قال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ}، وهو الإعلام بأنه لا إله إلا الله، وأقمنا الأدلة الصحيحة الواضحة القاطعة على ذلك، {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي: في عبادتهم مع الله غيره، ولا دليل لهم على ذلك، كما قال في آخر السورة: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}، فالمشركون لا يفعلون ذلك عن دليل قادهم إلى ما هم فيه من الإفك والضلال، وإنما يفعلون ذلك اتباعا لآبائهم وأسلافهم الحيارى الجهال، كما قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].


{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)}.
ينزه تعالى نفسه عن أن يكون له ولد أو شريك في الملك، فقال: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي: لو قُدِّر تعدد الآلهة، لانفرد كل منهم بما يخلق، فما كان ينتظم الوجود. والمشاهد أن الوجود منتظم متسق، كل من العالم العلوي والسفلي مرتبط بعضه ببعض، في غاية الكمال، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3] ثم لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه، فيعلو بعضهم على بعض. والمتكلمون ذكروا هذا المعنى وعبروا عنه بدليل التمانع، وهو أنه لو فرض صانعان فصاعدا، فأراد واحد تحريك جسم وأراد الآخر سكونه، فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما كانا عاجزين، والواجب لا يكون عاجزًا، ويمتنع اجتماع مراديهما للتضاد. وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد، فيكون محالا فأما إن حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان الغالب هو الواجب، والآخر المغلوب ممكنًا؛ لأنه لا يليق بصفة الواجب أن يكون مقهورا؛ ولهذا قال: {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي: عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك علوا كبيرا.
{عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: يعلم ما يغيب عن المخلوقات وما يشاهدونه، {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تقدس وتنزه وتعالى وعز وجل عما يقول الظالمون والجاحدون.


{قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)}.
يقول تعالى آمرًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يدعو هذا الدعاء عند حلول النقم: {رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} أي: إن عاقبتهم- وإني شاهدُ ذلك- فلا تجعلني فيهم، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي- وصححه-: «وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون».
وقوله: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} أي: لو شئنا لأريناك ما نحل بهم من النقم والبلاء والمحن.
ثم قال مرشدًا له إلى التِّرْياق النافع في مخالطة الناس، وهو الإحسان إلى من يسيء، ليستجلب خاطره، فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة، فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}، وهذا كما قال في الآية الأخرى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34، 35]: أي ما يلهم هذه الوصية أو الخصلة أو الصفة {إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا} أي: على أذى الناس، فعاملوهم بالجميل مع إسدائهم إليهم القبيح، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي: في الدنيا والآخرة.
وقوله: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}: أمره أن يستعيذ من الشياطين، لأنهم لا تنفع معهم الحيل، ولا ينقادون بالمعروف.
وقد قدمنا عند الاستعاذة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من هَمْزه ونَفْخه ونَفْثه».
وقوله: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} أي: في شيء من أمري؛ ولهذا أمر بذكر الله في ابتداء الأمور- وذلك مطردة للشياطين- عند الأكل والجماع والذبح، وغير ذلك من الأمور؛ ولهذا روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهَرَم، وأعوذ بك من الهَدْم ومن الغرق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت».
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات يقولهن عند النوم، من الفزع: «بسم الله، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون» قال: فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها، كتبها له، فعلقها في عنقه.
ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، من حديث محمد بن إسحاق، وقال الترمذي: حسن غريب.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8